الاستاذ: خالد عصام جوده / هذا هو الوقت الذي يجب أن تُكتب فيه صفحة جديدة في السياسة الخارجية الفلسطينية، مستلهمة من التجارب الإصلاحية التي قادها شباب في مواقع القرار في دول مثل السعودية والإمارات وكندا وهولندا. لقد أثبتت هذه النماذج أن التغيير الحقيقي لا يأتي فقط من السياسات، بل من الأشخاص الذين يصيغونها، من الكفاءات الشابة التي تمتلك الرؤية والجرأة والمعرفة المتعمقة بالساحات الدولية. ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، حين تولى زمام القيادة وهو في عمر 38 عامًا، أطلق رؤية طموحة قلبت موازين الداخل السعودي وامتدت آثارها إلى الخارج. لم تكن الإصلاحات شكلية، بل كانت بنيوية، شملت الاقتصاد، الثقافة، التعليم، والانفتاح على العالم. تم تعيين كفاءات شابة في مواقع حساسة، وتمكينهم من صناعة القرار، مما خلق ديناميكية جديدة في الدبلوماسية السعودية، وجعلها أكثر حضورًا وتأثيرًا في المحافل الدولية. وفي الإمارات، تم إطلاق برامج مثل “القيادات الدبلوماسية العربية الشابة” التي تهدف إلى إعداد جيل جديد من الدبلوماسيين العرب، مزودين بالمهارات التقنية والمعرفة العميقة بالبروتوكولات الدولية، ليكونوا سفراء لقضاياهم في العالم. هذه المبادرات لم تكن مجرد تدريب، بل كانت استثمارًا في الإنسان، في قدرته على تمثيل وطنه بذكاء وحنكة. كندا وهولندا أيضًا تقدمان نماذج مؤسساتية قوية تُبنى بأيدي شبابية، حيث يتم إشراك الشباب في صياغة السياسات، وفي قيادة الملفات الحساسة مثل المناخ، حقوق الإنسان، والابتكار. هذه الدول لا ترى في الشباب مجرد طاقة، بل تعتبرهم عقلًا استراتيجيًا قادرًا على صياغة المستقبل. من هذا المنطلق، يجب أن تعيد السياسة الخارجية الفلسطينية النظر في بنيتها القيادية، وتفتح المجال أمام الكفاءات الشابة التي تعيش نبض الشارع العربي والدولي، وتفهم لغة العالم الجديد. التعيينات يجب أن تكون مبنية على الكفاءة، الخبرة، والقدرة على التواصل مع الشعوب والمؤسسات، لا على الولاء أو المحسوبية. فالدبلوماسي اليوم لم يعد مجرد ناقل للرسائل، بل هو صانع سردية، وباني علاقات، ومهندس مصالح. إن القادة العرب الذين تبنوا هذا النهج، انعكست رؤيتهم على علاقات دولهم الخارجية، وعلى صورة بلدانهم في العالم. وهذا ما يجب أن تسعى إليه فلسطين: بناء دبلوماسية شابة، جريئة، مثقفة، ومندمجة في العالم، قادرة على الدفاع عن الحق الفلسطيني بلغة يفهمها العالم، وبأسلوب يحترمه الجميع. حين ألتقي بشباب عربي وأوروبي يقودون مؤسسات نحو الانفتاح والمعرفة، أرى فيهم ملامح المستقبل الذي يجب أن نكون جزءًا منه. فلسطين لا تنقصها العقول، بل تحتاج إلى قرار شجاع يمنح هذه العقول فرصة القيادة. فالدبلوماسية ليست فقط في القاعات المغلقة، بل في الجامعات، في الإعلام، في منصات التواصل، وفي كل مكان يُصاغ فيه الرأي العام العالمي. فَفي ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي في تنفيذ مخططاته التوسعية الرامية إلى ابتلاع الأراضي الفلسطينية والعربية، تتصاعد الحاجة الملحة إلى تفعيل الدور السياسي والدبلوماسي الفلسطيني على نحو غير مسبوق. فالمشهد الراهن لا يقتصر على مجرد احتلال عسكري، بل يتعداه إلى مشروع ممنهج يستهدف الهوية والوجود، عبر سياسات الإبادة الجماعية والتهجير القسري والاستيطان المتسارع الذي يلتهم الأرض ويقوض أي أفق لحل عادل. إن ما يجري على الأرض من انتهاكات صارخة للقانون الدولي والقرارات الأممية، يضع السياسة الخارجية الفلسطينية أمام مسؤولية تاريخية تتطلب إعادة ترتيب الأولويات وبناء شبكة علاقات دولية أكثر فاعلية. لم يعد كافيًا الاكتفاء بإصدار بيانات الإدانة أو التوجه الموسمي إلى المنابر الدولية، بل بات من الضروري صياغة استراتيجية دبلوماسية متكاملة، تستند إلى سردية فلسطينية قوية، وتوظف أدوات الضغط السياسي والقانوني والاقتصادي في مواجهة الاحتلال.الدبلوماسية الفلسطينية مطالبة اليوم بأن تكون أكثر جرأة وابتكارًا في تحركاتها، وأن تنقل القضية من مربع الدفاع إلى مربع المبادرة. يجب أن تُبنى التحالفات على أساس المصالح المشتركة والعدالة، وأن تُستثمر العلاقات مع القوى الصاعدة في العالم، بعيدًا عن الارتهان للمواقف التقليدية التي أثبتت محدوديتها. كما أن الانفتاح على الشعوب والرأي العام العالمي بات ضرورة، في ظل تنامي الوعي الشعبي بالقضية الفلسطينية، خاصة في ظل تصاعد حملات التضامن في الجامعات والمؤسسات المدنية حول العالم. من جهة أخرى، فإن السياسة الخارجية الفلسطينية يجب أن تعيد تعريف دورها في المحيط العربي، الذي يشهد تحولات متسارعة وتطبيعًا متزايدًا مع الاحتلال. لا بد من خطاب عربي صريح يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية كقضية مركزية، ويضع حدًا لحالة التجاهل أو التهميش التي باتت تهدد وحدة الموقف العربي. وهنا يبرز دور القيادة الفلسطينية في بناء جسور الثقة والتواصل مع الشعوب العربية، واستعادة البعد القومي للقضية. إن مواجهة مشروع الاحتلال لا يمكن أن تكون فقط عبر المقاومة الميدانية، رغم أهميتها، بل يجب أن تتكامل مع مقاومة سياسية ودبلوماسية تعيد الاعتبار للحق الفلسطيني وتفضح جرائم الاحتلال أمام العالم. فكل خطوة دبلوماسية ناجحة هي بمثابة انتصار للعدالة، وكل تحرك خارجي مدروس هو حجر يُلقى في وجه آلة الاستيطان والتهويد. في هذا السياق، يصبح من الضروري الاستثمار في الكفاءات الدبلوماسية الفلسطينية، وتطوير أدوات العمل السياسي، وتوحيد الخطاب الرسمي، بما يعكس وحدة الموقف الوطني ويعزز من حضور فلسطين في المحافل الدولية. كما أن إشراك الجاليات الفلسطينية في الخارج، وتفعيل دورها في التأثير على السياسات الخارجية للدول التي تقيم فيها، يمثل رافعة مهمة يجب ألا تُغفل. إن القضية الفلسطينية تمر بمنعطف حاسم، والاحتلال يراهن على الزمن والنسيان، لكن الدبلوماسية الفلسطينية قادرة على قلب المعادلة إذا ما امتلكت الإرادة والرؤية والقدرة على التحرك الفاعل. فالتاريخ لا يرحم المترددين، والشعوب لا تنسى من يدافع عن كرامتها وحقها في الحياة والحرية. إن فلسطين اليوم بحاجة إلى دبلوماسية لا تكتفي برد الفعل، بل تصنع الفعل. بحاجة إلى وجوه شابة تحمل الحلم الفلسطيني بلغة العالم، وتعيد الاعتبار لقضية عادلة طالما حاول الاحتلال طمسها. هذه الخطة أو المقال ليست مجرد ورقة، بل دعوة للعمل، دعوة للجرأة، دعوة للانطلاق نحو العالم بثقة وكرامة وإنفتاح . وللحديث بقية في جعبة الشباب الكثير المثير لإعجاب العالم بنا.